الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة: .المسألة الأولى: في قدر نصاب الذهب والفضة وفي القدر الواجب إخراجه منهما: أما نصاب الفضة، فقد اجمع جميع العلماء على أنه مائتا درهم شرعي، ووزن الدرهم الشرعي ستة دوانق، وكل عشرة دراهم شرعية فهي سبعة مثاقيل، والأوقية أربعون درهمًا شرعيًا.وكل هذا أجمع عليه المسلمون فلا عبرة بقول المريسي، الذي خرق به الإجماع. وهو اعتبار العدد في الدراهم لا الوزن، ولا بما انفرد به السرخسي من الشافعية، زاعمًا أنه وجه في المذهب، من أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدرًا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلًا لبلغ نصابًا أن الزكاة تجب فيه، كما نقل عن أبي حنيفة، ولا بقول ابن حبيب الأندلسي، إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم، ولا بما ذكره ابن عبد البر. من اختلاف الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، لأن النصوص الصحيحة الصريحة التي أجمع عليها المسلمون مبينة أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي بالوزن الذي كان معروفًا في مكة. اهـ.وكل سبعة مثاقيل فهي عشرة دراهم، فقد اخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة». ورواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه. وقد أجمع جميع المسلمين، وجمهور أهل اللسان العربي، على أن الأوقية أربعون درهمًا، وما ذكره أبو عبيد وغيره، من أن الدرهم كان مجهولًا قدره حتى جاء عبد الملك بن مروان، فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل لا يخفى سقوطه وأنه لا يمكن أن يكون نصاب الزكاة وقطع السرقة مجهولًا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، حتى يحققه عبد الملك.والظاهر أن معنى ما نقل من ذلك: أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام، وكانت مختلفة الوزن بالنسبة إلى العدد: فعشرة مثلًا وزن عشرة، وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصيرونها وزنًا واحدًا. وقد ذكرنا تحقيق وزن الدرهم في الأنعام، وقال بعض العلماء: يغتفر في نصاب الفضة النقص اليسير الذي تروج معه الدراهم رواج الكاملة.وظاهر النصوص أنه لا زكاة إلا في نصاب كامل، لأن الناقص ولو بقليل يصدق عليه أنه دون خمس أواق، والنَّبي صلى الله عليه وسلم: صرح بأن ما دونها ليس فيه صدقة.فإذا حققت النص والإجماع: على ان نصاب الفضة مائتا درهم شرعي، وهي وزن مائة وأربعين مثقالًا من الفضة الخالصة، فاعلم أن القدر الواجب إخراجه منها ربع العشر بإجماع المسلمين، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وفي الرقة ربع العشر». والرقة: الفضة.قال البخاري في صحيحه في باب زكاة الغنم: حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس. أن أنسًا حدثه، أن ابا بكر رضي الله عنه، كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: «بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله». الحديث: وفيه. وفي الرقة: ربع العشر، وهو نص صريح صحيح أجمع عليه جميع المسلمين.فتحصل أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب الزكاة في الفضة، ولا خلاف بينهم في أن نصابها مائتا درهم شرعي، ولا خلاف بينهم في أن اللازم فيها ربع العشر.وجمهور العلماء: على أنها لا وقص خلافًا لأبي حنيفة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والحسن البصري، والشعبي، ومكحول، وعمرو بن دينار، والزهري، القائلين: بأنه لا شيء في الزيادة على المائتين حتى تبلغ أربعين، ففيها درهم.وأما الذهب: فجماهير علماء المسلمين، على أن نصابه عشرون دينارًا والدينار: هو المثقال، فلا عبرة بقول من شذ وخالف جماهير علماء المسلمين، كما روي عن الحسن في أحد قوليه: أن نصاب الذهب أربعون دينارًا، وكقول طاوس، أن نصاب الذهب معتبر بالتقويم بالفضة، فما بلغ منه قيمة مائتي درهم وجبت فيه الزكاة. وجماهير علماء المسلمين أيضًا، على أن الواجب فيه ربع العشر.والدليل على ما ذكرنا عن جمهور علماء الأمة، أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، والواجب فيه ربع العشر، ما أخرجه أبو داود، في سننه، حدثنا سليمان بن داود المَهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، وسمى آخر، عن ابي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: «فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء- يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارًا فإذا كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول، ففيه انصف دينار، فما زاد فَبِحِسَاب ذلك». قال: فلا أدري أَعَلِيٌ يقول فَبِحِسَاب ذلك، أو رفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا أن جريرًا قال: ابن وهب، يزيد في الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول». اهـ.فإن قيل: هذا الحديث مضعف بالحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة، لأنهما ضعيفان، وبأن الدارقطني، قال: الصواب وقفه على علي، وبأن ابن المواق قال: إن فيه علة خفية وهي، أن جرير بن حازم، لم يسمعه من أبي إسحاق، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب، سحنون، وحرملة، ويونس، وبحر بن نصر، وغيرهم، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم والحارث بن نبهان، عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق، فذكره، قال ابن المواق: الحمل فيه على سليمان، شيخ أبي داود، فإنه وهم في إسقاط رجل. اهـ.وبأن الشافعي رحمه الله قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق صدقة، وأخذ المسلمون بعده في الذهب صدقة، إما بخبر عنه لم يبلغنا، وإما قياسًا.اهـ.وهو صريح عن الشافعي: بأنه يرى، أن الذهب لم يثبت فيه شيء في غلمه، وبأن ابن عبد البر، قال: لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب شيء من جهة تقل الآحاد الثقات.لكن روى الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق، عن عاصم، والحارث، عن علي، فذكره، وكذا رواه أبو حنيفة: ولو صح عنه لم يكن فيه حجة لأن الحسن بن عمارة متروك.وبأن ابن الحزم قال: لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في نصاب الذهب، ولا في القدر الواجب فيه شيء.وذكر: أن الحديث المذكور، من رواية الحارث الأعور مرفوع، والحارث، ضعيف لا يحتج به، وكذبه غير واحد، قال: وأما رواية عاصم بن ضمرة. فهي موقوفة على علي رضي الله عنه، قال: وكذلك رواه شعبة، وسفيان، ومعمر عن أبي إسحاق، عن عاصم، موقوفًا: وكذا كل ثقة رواه عن عاصم.فالجواب من أوجه:الأول: أن بعض العلماء قال: إن هذا الحديث ثابت، قال الترمذي: وقد روى طرفًا من هذا الحديث وروى هذا الحديث الأعمش، وأبو عوانة، وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ورواه سفيان الثوري، وابن عيينة، وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث عن علي، وسألت محمدًا- يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح. اهـ.فترى الترمذي، نقل عن البخاري، تصحيح هذا الحديث، وقال النووي في (شرح المهذب) وأما حديث عاصم عن علي رضي الله عنه، فرواه أبو داود وغيره بإسناد حسن، أو صحيح، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) وحديث علي هو من حديث أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة، وقد تقدم أن البخاري قال: كلاهما عنده صحيح، وقد حسنه الحافظ، اه محل الغرض من كلام الشوكاني.الوجه الثاني: أنه يعتضد بما رواه الدارقطني، من حديث محمد بن عبد الله بن جحش، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر معاذًا، حين بعثه إلى اليمن، أن يأخذ من كل أربعين دينارًا دينارًا.الحديث ذكره ابن حجر، في (التلخيص) وسكت عليه. ومما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب شيء». قال النووي: غريب. اهـ.الوجه الثالث: المناقشة بحسب صناعة علم الحديث والأصول فنقول:سلمنا أن الحارث الأعور ضعيف كما تقدم في المائدة، وإن وثقه ابن معين، فيبقى عاصم بن ضمرة، الذي روى معه الحديث، فإن حديثه حجة وقد وثقه ابن المديني.وقال: النسائي: ليس به بأس.وقال فيه ابن حجر في (التقريب): عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي: صدوق وتعتضد روايته برواية الحارث، وإن كان ضعيفًا. وبما ذكرنا عن محمد بن عبد الله بن جحش، وعمرو بن شعيب.فبهذا تعلم أن تضعيف الحديث بضعف سنده مردود.وقد قدمنا عن الترمذي، أن البخاري قال: كلاهما صحيح.وقد قدمنا أن النووي قال فيه: حسن أو صحيح.ونقل الشوكاني، عن ابن حجر: أنه حَسَّنَهُ.أما ما أعله به ابن المواق، من أن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق. لأن بينهما الحسن بن عمارة وهو متروك، فهو مردود. لأن الحديث ثابت من طرق متعددة صحيحة إلى أبي إسحاق، وقد قدمنا أن الترمذي قال: وذكر طرفًا منه، هذا الحديث، رواه الأعمش، وأبو عوانة وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ورواه سفيان الثوري، وابن عيينة، وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي. اهـ.فترى: أن أبا عوانة، والأعمش، والسفيانين، وغيرهم، كلهم رووه عن أبي إسحاق. وبه تعلم بأن إعلال ابن المواق له بأن راويه عن أبي إسحاق الحسن بن عمارة- وهو متروك- إعلال ساقط. لصحة الحديث إلى أبي إسحاق، فإذا حققت رد تضعيفه بأن عاصمًا صدوق، ورد إعلال ابن المواق له، فاعلم أن إعلال ابن حزم له بأن المرفوع رواية الحارث، وهو ضعيف: وأن رواية عاصم بن ضمرة، موقوفة على علي، مردود من وجهين.الأول: أن قدر نصاب الزكاة، وقدر الواجب فيه، كلاهما أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه والاجتهاد، والموقوف إن كان كذلك فله حكم الرفع، كما علم في علم الحديث والأصول.قال العلوي الشنقيطي في (طلعة الأنوار):وقال العراقي في ألفيته: الثاني: أن سند أبي داود الذي رواه به حسن، أو صحيح، كما قاله النووي، وغيره، والرفع من زيادات العدول، وهي مقبولة، قال في (راقي السعود): . إلخ.الوجه الرابع: اعتضاد الحديث المذكور بإجماع الحجة من علماء المسلمين إلا من شذ عن السواد الأعظم على العمل بمقتضاه، وإجماع المسلمين إذا وافق خير آحاد، فبعض العلماء يقول: يصير بمواقفة الإجماع له قطعيًا كالمتواتر.وأكثر الأصوليين يقولون: لا يصير قطعيًا بذلك.وفرق قوم، فقالوا: إن صرحوا بأن معتمدهم في إجماعهم هو ذلك الخبر. أفاد القطع، وإلا فلا، وأشار إلى ذلك في (مراقي السعود) بقوله: وبعضهم يفيد حيث عولا عليه........... الخ.وعلى كل حال، فلا يخفى أنه يعتضد بعمل المسلمين به.الخامس: دلالة الكتاب، والسنة والإجماع، على أن الزكاة واجبة في الذهب.أما الكتاب فقوله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35].وأما السنة: فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب ذهب، ولا فضة لا يؤدي منها حَقَّها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه، ووجهه وظهره، كلما بردت أُعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار»، الحديث. هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهو صريح في وجوب الحق في الذهب، كالفضة، وقد أجمع على ذلك جميع العلماء، وإذن يكون الحديث المذكور بيانًا لشيء ثابت قطعًا، وقد تقرر في الأصول أن البيان يجوز بما هو دون المبين دلالة وسندًا، كما أوضحناه في ترجمة هذا الكتاب.فتحصل أن نصاب الذهب عشرون مثقالًا، وما زاد فبحسابه، وأن الواجب فيه ربع العشر، كالفضة، وأن الذهب والفضة ليس فيهما وقص، بل كل ما زاد على النصاب فبحسابه، خلافًا لمن شد فخالف في بعض ذلك، والعلم عند الله تعالى.
|